عام 1982م قد يكون عاماً عادياً لمعظم البلدان عدا سوريا. ففي هذا العام وتحديداً ضمن شهر فبراير شهدت محافظة حماة أسوأ أيامها، حيث قام النظام السوري السابق بقيادة حافظ الأسد بارتكاب مجزرة أسفرت عن مقتل عشرات الآلاف في أعمال تعتبر الأعنف في الذاكرة السورية. تبع مجزرة حماة خراب ودمار كبير في المدينة جراء الحصار والتدمير الممنهج. ولكن كان هنالك أثر آخر أكثر خفاءً لهذا الحدث المؤلم، اختبأ في الجينات البشرية للأسر السورية التي عاشت في المدينة آنذاك وشهدت الأحداث.
حيث كشفت دراسة حديثة نُشرت في مجلة Scientific Reports بتاريخ 27 فبراير 2025م أن أحفاد النساء الحوامل اللاتي عايشن مجزرة حماة، ورغم أنهم لم يعايشوا العنف بأنفسهم؛ يحملون بصمات وراثية لهذا الحدث داخل جيناتهم. وهذا الاكتشاف هو أول دليل بشري على ظاهرة سبق توثيقها في الحيوانات فقط، وهي ظاهرة انتقال آثار الصدمة عبر الأجيال وراثياً!
كيف انتقلت صدمة مجزرة حماة عبر الأجيال؟
الدراسة الحديثة مشتركة بين معهد علم الوراثة بجامعة فلوريدا والجامعة الهاشمية في الأردن. حيث توضح أستاذة الأنثروبولوجيا وكبيرة الباحثين في الدراسة كوني موليجان قائلةً:" إنَّ هذا الاكتشاف يحمل دلالات اجتماعية هامة. ففكرة أن الصدمات والعنف يمكن أن تمتد تأثيراتها إلى الأجيال القادمة تعزز التعاطف بين الناس، وتدفع بمطالبة صانعي القرار للانتباه إلى مشكلة العنف. كما قد تساعد في تفسير بعض دوائر العنف والفقر والصدمة التي تبدو غير قابلة للكسر في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك في الولايات المتحدة".
رغم أن تجارب الحياة لا تغير تسلسل الجينات نفسها، إلا أنها قد تؤثر على طريقة عملها عبر نظام يُعرف باسم التعديلات فوق الجينية (Epigenetics). فعند التعرض للضغوط النفسية يمكن للخلايا أن تضيف علامات كيميائية صغيرة إلى الجينات؛ مما يؤدي إلى كبح نشاطها أو تعديله. ويعتقد العلماء أن هذه التعديلات قد تساعد في التكيّف مع البيئات القاسية رغم أن تأثيراتها على المدى الطويل لا تزال غير واضحة تماماً.
رحلة البحث عن العلامات الوراثية للصدمات
سعى فريق موليجان لاكتشاف هذه العلامات الكيميائية في جينات العائلات السورية الناجية من مجزرة حماة. ففي حين أظهرت التجارب المختبرية أن الحيوانات يمكنها نقل هذه التعديلات فوق الجينية إلى الأجيال اللاحقة، فإن إثبات ذلك في البشر كان أمراً بالغ الصعوبة.
ولتحقيق ذلك تعاونت كوني موليجان مع كل من عالمة الأحياء الجزيئية في الجامعة الهاشمية رنا دجاني، وأستاذة الأنثروبولوجيا بجامعة ييل كاثرين بانتر بريك. فشمل البحث ثلاث مجموعات من الأسر السورية:
1. عائلات عاشت أحداث مجزرة حماة قبل فرارها إلى الأردن.
2. عائلات لم تمر بحصار حماة لكنها عايشت أحداث الثمانينات السورية.
3. عائلات هاجرت إلى الأردن قبل عام 1980م ولم تعش أو تكن قريبة من أحداث عنيفة حدثت في سوريا، وقد استخدمت كمجموعة ضابطة للمقارنة.
العالمة رنا دجاني وكونها ابنة لاجئين سوريين لعبت دوراً أساسياً في بناء الثقة مع المجتمع السوري اللاجئ ليشارك في التجربة. وهو ما ساعدها على جمع عينات (لُعاب) من 138 شخصاً من 48 عائلة.
العثور على بصمات العنف في الحمض النووي
بعد تحليل الحمض النووي للعينات اكتشف الباحثون 14 موقعاً في الجينوم لدى أحفاد الناجين من مجزرة حماة، تحمل تعديلات وراثية مرتبطة بالصدمات التي عاشتها جداتهم. وأكدت هذه النتائج أن التعديلات فوق الجينية الناتجة عن الخوف والعنف قد تنتقل بين الأجيال تماماً كما يحدث لدى الحيوانات.
كما كشفت الدراسة نفسها عن 21 موقعاً وراثياً متأثراً لدى الأشخاص الذين عاشوا العنف بشكل مباشر في سوريا. أما الأفراد الذين تعرضوا للعنف وهم في أرحام أمهاتهم؛ فقد أظهرت جيناتهم دلائل على شيخوخة بيولوجية متسارعة، وهي ظاهرة قد تزيد من خطر الإصابة بأمراض مرتبطة بالعمر.
وتشير النتائج إلى أن هذه التعديلات فوق الجينية تتبع نمطاً مشتركاً عند التعرض للعنف، مما يعني أن تأثير الصدمة ليس محصوراً فقط على من مرَّ بها مباشرة، بل يمكن أن يمتد إلى الأجيال القادمة.
هل تؤثر هذه التعديلات على الصحة؟
لا يزال من غير الواضح مدى تأثير هذه التعديلات فوق الجينية على حياة الأشخاص الذين يحملونها. ومع ذلك فقد ربطت بعض الدراسات السابقة بين التغيرات الناتجة عن التوتر والأمراض المزمنة مثل مرض السكري.
كما أظهرت دراسة شهيرة حول المجاعة الهولندية خلال الحرب العالمية الثانية أن الناجين وأحفادهم كانوا أكثر عرضة للإصابة بالسمنة لاحقاً في حياتهم.
تقول كوني موليجان تعليقاً على أهمية الدراسة:
"عملنا لا يقتصر على دراسة اللاجئين فقط، بل ينطبق على جميع أشكال العنف، مثل العنف المنزلي والعنف الجنسي، وحوادث إطلاق النار. فعلينا أن نأخذ هذه الأمور على محمل الجد وندرسها بشكل أعمق".
قوة صمود السوريين في وجه إجرام الأسد مدهشة
رغم أن البحث ركز على آثار الصدمة في الجينات، إلا أن الباحثين كانوا أيضاً منبهرين بقوة صمود العائلات السورية بعد النجاة من مجزرة حماة.
فتعلق كوني موليجان: "في خضم كل هذا العنف، ما زلنا نشهد قدرة البشر على الصمود. هؤلاء الأفراد يعيشون اليوم حياة مليئة بالإنتاجية يبنون عائلات ويحافظون على تقاليدهم. وهذه القدرة على الاستمرار هي إحدى السمات الفريدة للبشر".