أقسام الوصول السريع (مربع البحث)

آخر الأخبار

برج ميرديكا 188: ثاني أطول ناطحة سحاب في العالم!

صورة تظهر برج ميرديكا 118 بجانب باقي الأبنية في كوالالمبور

من قلب كوالالمبور يطل برج ميرديكا 188 كرمزٍ للحلم الهندسي الذي يتجاوز حدود الممكن، مجسّداً روح الاستقلال الماليزي وطموح الماليزيين. فلم يكن مجرد ناطحة سحاب؛ فهو احتفالٌ بالماضي وعينٌ على المستقبل، إذ يجمع بين تصميمٍ يتّسم بالجُرأة وبناءٍ يتحدى القوى الطبيعية مع الحفاظ على استدامة بيئية وأمان هيكلي.

يقع البرج وسط كوالالمبور، متصلاً بشكل مباشر بجميع خطوط النقل العام الحيوية، كمحطة MRT مرديكا ومحطتي LRT وخط المونوريل.

ويُعد أيقونة معمارية وهندسية تزيّن أفق ماليزيا، مجسداً طموحاتها المعاصرة بارتفاع مذهل يبلغ 678.9 متر. حيث يفرض هذا البرج نفسه كثاني أطول ناطحة سحاب في العالم بعد برج خليفة.


عبقرية تصميم برج ميرديكا 188

لم يكن إنشاء برج ميرديكا 188 مجرد مهمة إنشائية عادية؛ إنما كان رحلة هندسية مثيرة جسّدت قمة الابتكار البشري في التعامل مع تحديات الارتفاعات الشاهقة والمناخ الاستوائي واللوجستيات المعقدة. وكل ذلك بغية إنجاز معلمٍ يفوق حدود التوقعات ويُلهب خيال كل من ينظر إليه.

استلهم المهندسون شكل برج ميرديكا 188 من اللحظة الخالدة في ذاكرة الماليزيين؛ والتي أعلن فيها أول رئيس وزراء لماليزيا تنكو عبد الرحمن استقلال البلاد عام 1957م. حيث يحاكي البرج بواجهة متعددة الأوجه وبرأسه المميز اليد المرفوعة المعلنة للحرية. وهو ما أضفى عليه بعداً ثقافياً وإنسانياً يتجاوز كونه مجرد ناطحة سحاب، وقد تعاونت كبرى الشركات العالمية في إنجازه.

صورتين لتوضيح استلهام فكرة برج ميرديكا 118

صمم البرج المهندس المعماري الأسترالي "فيندر كاتساليديس"، وهو الذي قاد فريق التصميم المعماري لهذا المشروع الضخم. وشارك في هذا المشروع الاستشاري الهندسي شركة (Arup) كمهندس مدني وإنشائي رئيسي. بينما تولت شركة "RSP Architects" دور المهندس المعماري المحلي، حيث قامت بتطبيق التصميم وفقاً للمعايير الهندسية المحلية في ماليزيا. وقد أسهم هذا التعاون بين الفرق الهندسية المعمارية المحلية والدولية في تحقيق إنجاز معماري متميز جعل برج ميرديكا 118 واحداً من أبرز المعالم المعمارية في العالم.

بدأ بناءه في عام 2014م حيث تم وضع حجر الأساس للمشروع في موقعه الاستراتيجي في قلب مدينة كوالالمبور بماليزيا. واستغرق تنفيذ هذا المشروع الضخم نحو تسع سنوات من العمل المستمر فانتهى بنائه عام 2023م. وخلال تلك الفترة واجه فريق العمل تحديات كبيرة، سواء من حيث ارتفاع البرج أو الظروف المناخية الاستوائية المتقلبة. إلا أن جهود الفرق الهندسية والمعمارية وتطبيق التكنولوجيا المتقدمة أسهمت في إنجاز المشروع بنجاح، ليقف البرج اليوم كأطول مبنى في ماليزيا وثاني أطول مبنى في العالم.


تقنيات رائدة في بناء برج ميرديكا 188

في عملية بناء البرج الماليزي قام فريق العمل بتطوير نوع خاص من الخرسانة يدعى الخرسانة عالية الأداء (HPC). هذه الخرسانة كانت مصممة بشكل يسمح بضخها إلى ارتفاعات ضخمة بشكل مباشر، وهي ميزة لم تكن متوفرة في الأنواع التقليدية من الخرسانات. وقد ساعدت القدرة على ضخ الخرسانة إلى ارتفاعات غير مسبوقة بشكل كبير في تسريع عملية البناء وتسهيل تنفيذ المشروع على عكس ما يحدث في المباني التقليدية التي تتطلب تقنيات معقدة لتحمل أوزان الخرسانة أثناء النقل إلى الطوابق العليا.

وإلى جانب تسهيل عملية البناء سمحت هذه الخرسانة بتقليل استخدام الفولاذ الهيكلي بنسبة كبيرة. وهو ما أدى إلى تقليص التكلفة المبدئية للمشروع بشكل ملحوظ، إذ تم تقليل المواد المستخدمة وتوفير الطاقة والموارد اللازمة لصنع الفولاذ.

ومن طرفٍ آخر ساهمت الخرسانة في تحسين التصميم الداخلي للبرج؛ حيث وفّرت مزيداً من المساحات الصافية التي يمكن استخدامها من قبل العملاء. أي أن المساحات القابلة للاستخدام في البرج كانت أكبر من المباني التقليدية. وهذا التوفير في المساحات جعل المبنى أكثر مرونة وعزز من قيمة استثماره من الناحية الاقتصادية والهندسية.


التحديات المناخية التي واجهت بناءه

فرض المناخ الاستوائي في كوالالمبور على مشروع برج ميرديكا 188 تحدياتٍ ضخمة بدايةً من الأمطار الغزيرة وصولاً للعواصف الرعدية المفاجئة. ولذلك ابتكر المهندسون أنظمة مراقبة طقس متقدمة ونظام إنذار مبكر للصواعق يتيح الإخلاء الآمن للعمال في منطقة العمل قبل حدوث العواصف.

وقد تميز صب الخرسانة بإجراءات دقيقة لضمان الجودة العالية في بيئة رطبة ومليئة بالتقلبات الجوية مما عزز من متانة الهيكل النهائي.


النظام الهيكلي المتكامل

اعتمد برج ميرديكا 188 على تصميم هندسي معقد يتمثل في خمسة أنظمة هيكلية رئيسية تعمل معاً لتحقيق أقصى درجات الاستقرار والأداء الهيكلي. وقد تم وضع هذه الأنظمة بعناية لتكون قادرة على مقاومة الأحمال الكبيرة الناتجة عن العوامل المناخية المختلفة كالرياح القوية بالإضافة إلى الحفاظ على المساحات الداخلية الواسعة في البرج.

1. النواة المركزية المسلحة (Central Core) في برج ميرديكا 188:

تشكل النواة المركزية العنصر الإنشائي الأهم في البرج، وهي جدار خرساني ضخم يمر عبر مركز المبنى بأكمله. تقوم هذه النواة بمقاومة قوى الالتواء والانحناء الناتجة عن الرياح وتوزيع الأحمال الرأسية. وتحتوي بداخلها على المصاعد وسلالم الطوارئ والخدمات الأساسية.

2. الأعمدة المحيطية الضخمة (Perimeter Mega Columns):

تم تدعيم النواة المركزية بواسطة ثمانية أعمدة خارجية ضخمة بأبعاد 4.5×5 متر. حيث تساهم هذه الأعمدة بشكل فعال في مقاومة الأحمال الرأسية الناتجة عن وزن المبنى وتساعد في نقل القوى الأفقية إلى الأساسات.

3. الهيكل الشبكي ثلاثي الأبعاد (3D Outrigger System):

تم تصميم هيكل شبكي معقد يربط النواة المركزية بالأعمدة المحيطية، مما يخلق نظام دعم ثلاثي الأبعاد. هذا الهيكل يعتبر "دعامة أفقية" ضخمة؛ حيث يعمل على توجيه القوى من الرياح والظروف المحيطية بطريقة تضمن استقرار المبنى بأكمله. وهو بمثابة شبكة دعم تعمل على ضمان أن جميع أجزاء البرج تتوزع عليها الأحمال بشكل متساوٍ، ما يقلل من احتمالات حدوث التشوهات الهيكلية أو الفشل في أجزاء معينة من المبنى.

4. الأُطر الداعمة متعددة الطوابق (Multi-Level Belt Trusses):

تم إنشاء ثلاثة مستويات من الأُطر الحديدية العريضة (Belt Trusses) على ارتفاعات محددة عبر المبنى، حيث يمتد كل إطار بعمق ثلاثة طوابق. وظيفة هذه الأُطر تتمثل بربط الأعمدة المحيطية معاً وتوزيع الأحمال بينها، لزيادة صلابة البرج في مواجهة الرياح وللحد من انزياح الطوابق العلوية. وقد ساهمت أيضاً في تقليل حجم الأعمدة؛ مما سمح بتوسيع المساحات الداخلية للبرج دون التأثير على الصلابة الهيكلية للمبنى.

5. نظام الأرضيات المصمتة (Composite Floor System):

استخدم المهندسون في بناء برج ميرديكا 188 نظام أرضيات مصمت مركب من الخرسانة والفولاذ. يتيح توزيع الأحمال بشكل أفقي بكفاءة عالية، ويربط العناصر الإنشائية المختلفة معاً، ليزيد من تماسك المبنى ويقلل من التشوهات أثناء التحميل.


الحفاظ على التراث في منطقة البناء

رغم الطابع العصري والطموح الضخم لمشروع ناطحة السحاب الماليزية إلا أن فريق التصميم والبناء أظهر التزاماً واعياً بالحفاظ على البيئة العمرانية المحيطة. والتي تتميز بوجود معالم تاريخية بارزة كاستاد ميرديكا واستاد نيجارا اللذان يحملان قيمة ثقافية ووطنية عميقة في تاريخ ماليزيا.

وتكمن المعضلة الكبرى في أن أعمال الحفر الضخمة اللازمة لإنشاء أساسات البرج كانت قريبة جداً من هذه المعالم القديمة. وأي خطأ في تقنيات الحفر التقليدية كان قد يؤدي إلى:

• هبوط التربة المحيطة (Soil Settlement).

• زعزعة استقرار المنشآت القديمة.

• إحداث أضرار إنشائية يصعب تداركها لاحقاً.

فعوضاً عن اللجوء إلى أنظمة الدعم التقليدية كالدعائم الأفقية (Struts) أو الدعامات العميقة؛ اختار فريق المشروع نظام أكثر تطوراً، وذلك عبر تنفيذ جدار سد دائري محكم (Circular Secant Pile Wall) يعتمد على تقنية الأكوام المتشابكة (Secant Piles).

صورة لشكل جدار السد الدائري قبل بناء برج ميرديكا 118
صورة تظهر شكل جدار السد الدائري قبل البدء ببناء البرج

طريقة تنفيذ الأكوام المتشابكة:

يتم حفر أكوام خرسانية متداخلة بنمط دائري مغلق حول منطقة الحفر. وتُصمم الأكوام بحيث تتشابك مع بعضها البعض لتشكل جدار مقاوم للنفاذية وداعم للتربة المجاورة.

ويتميز بمقاومة عالية لضغوط التربة والمياه الجوفية. والحد من حركة التربة خارج منطقة الحفر إلى مستويات شبه معدومة. بالإضافة إلى تقليل الاهتزازات الناتجة عن أعمال الحفر إلى الحد الأدنى. وإلغاء الحاجة إلى دعامات أفقية داخل موقع الحفر، مما يسمح بحرية أكبر في العمل وسرعة في الإنجاز.

وبتطبيق هذه التقنية تم الحفاظ على استقرار استاد مرديكا واستاد نيجارا بنسبة تجاوزت معايير السلامة التقليدية. ولم تُسجل أي أضرار إنشائية أو شقوق على المنشآت التاريخية خلال كامل فترة أعمال الحفر والبناء.


السلامة الهيكلية في البرج

رغم أن الجزء العلوي من برج ميرديكا 188 يتميز بكونه نحيلاً جداً حيث يشكل حوالي 25% من إجمالي ارتفاع المبنى، إلا أن هذا التصميم الجريء فرض تحديات هندسية معقدة تتعلق بالسلامة الهيكلية، خصوصاً فيما يخص مقاومة الاهتزازات الهوائية.

حيث تظهر مشكلة الاهتزازات الهوائية مع ازدياد ارتفاع المباني فتصبح تأثيرات الرياح أكثر خطورة. ليس فقط عبر القوى الثابتة؛ بل أيضاً من خلال ظاهرة الاهتزازات الديناميكية الناتجة عن تذبذب تدفق الرياح حول الهيكل (وهي ظاهرة تُعرف بـ"اهتزازات فان كارمان" أو Vortex Shedding). وهذه الاهتزازات قد تسبب حركة غير مريحة للقاطنين، وقد تؤدي إلى إجهادات متكررة في المواد الإنشائية مع مرور الوقت.

الجزء العلوي من برج ميرديكا 118

ولتلافي هذه الأخطار اعتمد المهندسون مقاربة شاملة قائمة على محورين رئيسيين:

1. اختبارات نفق الرياح المتقدمة:

تم إنشاء نماذج مصغرة دقيقة لبرج ميرديكا 188، وأُجريت عليها تجارب مكثفة داخل أنفاق ريحية متخصصة. وخلال هذه الاختبارات تمت محاكاة ظروف الرياح الطبيعية بنطاق واسع من الاتجاهات والسرعات لتحديد:

• كيفية توزع الأحمال الهوائية عبر مختلف مستويات البرج.

• طبيعة الاستجابة الديناميكية للهيكل.

• الترددات الطبيعية للبرج ومقارنتها بترددات الرياح المتوقعة لتجنب ظاهرة الرنين الإنشائي.

2. تحليل الإجهاد الناتج عن الزمن:

نظراً لأن الأحمال الهوائية ليست ثابتة بل متغيرة مع الزمن، كان من الضروري تقييم أثر هذه الأحمال التكرارية على المواد الإنشائية عبر كامل عمر التصميم (المُقدّر بعقود).

ولأجل هذا الغرض تم تنفيذ تحليل دقيق للإجهاد الناتج عن التعب في المكونات الأساسية. خصوصاً في نقاط الاتصال والعقد المعدنية، حيث يُحتمل أن تتراكم أضرار الإجهاد بمرور الزمن. وهو ما قد يؤدي إلى تشققات دقيقة أو انهيارات محلية لو لم تُؤخذ في الحسبان مسبقاً.

وبناءً على نتائج هذه الدراسات العلمية المكثفة تم تطبيق عدة حلول عملية أبرزها:

• تصميم مبسط لانسيابية رأس البرج لتقليل احتباس الرياح وتفادي نشوء دوامات هوائية قوية.

• تعزيز صلابة النواة المركزية عبر استخدام خرسانة عالية الأداء وهياكل دعم إضافية.

• تركيب مخمدات اهتزازية (Dampers) مدمجة بشكل خفي في أجزاء من الهيكل لتقليل تسارع الاهتزازات إلى مستويات مقبولة تضمن راحة وسلامة السكان.


الابتكار المستقبلي المستوحى من البرج

لا يقتصر تأثير برج ميرديكا 188 على المشهد العمراني لماليزيا، بل يمتد ليشكّل معياراً جديداً لناطحات السحاب المستقبلية حول العالم.

فمن خلال تقنيات البناء المتطورة، وإدارة الموارد المستدامة، والتكامل الثقافي والهندسي، يعبر هذا البرج عن رؤية عالمية لمدن أكثر استدامة وتطوراً.

بل ويمثل ثورة في عالم ناطحات السحاب، إذ جمع بين الجرأة التصميمية والحلول الهندسية المتقدمة. وتحدّى مشروع بناءه القيود المناخية واللوجستية. وهو بلا أدنى شك سيُلهم الأجيال القادمة لتجاوز الحدود وشقّ دروبٍ جديدة في عالم الهندسة.

AYA BRIMO
AYA BRIMO