كوكب عطارد هو أقرب الكواكب إلى الشمس، إلا أنه ليس الأكثر حرارة! يدور حول الشمس بسرعة هائلة لكن يومه أطول من سنته بسبب ظاهرة غريبة!
هذا الكوكب الصخري الصغير يختزل مفاهيم الزمن والفيزياء في مدار لا يشبه سواه. فعلى سطحه قد تغلي الصخور تحت شمس حارقة في النهار ثم تتجمد في ظلامٍ قارس ليلاً.
فما سر هذا الكوكب الغامض؟ ولماذا يعتبره العلماء مفتاحاً لفهم بدايات المجموعة الشمسية؟ في هذا المقال نغوص في أعماقه، لنكتشف حقائق مذهلة عن تركيبته وحركته وسبب غرابته عن بقية الكواكب.
كوكب عطارد: البطاقة التعريفية
كوكب عطارد (بالإنجليزية Mercury) هو أقرب كوكب إلى الشمس؛ حيث يقع بين الشمس وكوكب الزهرة. وبسبب قربه الشديد من الشمس يواجه درجات حرارة شديدة التباين بين النهار والليل وهذا يجعل بيئته قاسية وغير مستقرة.
يُعدّ أصغر كواكب المجموعة الشمسية بعد استبعاد كوكب بلوتو من التصنيف الرسمي للكواكب عام 2006م إذ لا يتجاوز قطره الاستوائي 4,880 كيلومتراً، أي ما يعادل نحو 38% من قطر الأرض. وحجمه الكلي لا يمثل سوى 5.6% من حجم الأرض ما يجعله قريباً من حجم القمر رغم اختلاف طبيعتهما الجيولوجية. ورغم صغر حجمه، فإن كثافته تُعدّ من الأعلى بين كواكب المجموعة الشمسية، حيث يأتي في المرتبة الثانية بعد الأرض مباشرة.
يتكوّن من ثلاث طبقات رئيسية: نواة ووشاح وقشرة خارجية، إلا أن ما يميز تركيبه الداخلي هو ضخامة النواة الحديدية التي تُشكل أكثر من 80% من نصف قطر الكوكب. وهي نسبة غير معتادة بين كواكب المجموعة الشمسية. وهذه النواة الغنية بالحديد تشير الدراسات إلى أنها قد تكون سائلة جزئياً وتُنتج مجالاً مغناطيسياً ضعيفاً.
فوق النواة يقع وشاح صخري يُقدَّر سمكه بنحو 500 كيلومتر، يليه قشرة صلبة ورقيقة نسبياً يبلغ سُمكها حوالي 35 كيلومتراً فقط. ويُشير هذا التكوين إلى أن الكوكب فقد جزءاً كبيراً من مادته الخارجية في بدايات تشكله، وربما حدث هذا نتيجة اصطدام عنيف.
تاريخ اكتشاف كوكب عطارد ورصده القديم
رغم أنه كان معروفاً منذ العصور القديمة إلا أن رؤيته لأول مرة بشكل أكثر دقة تمّت باستخدام التلسكوبات المتطورة في القرن السابع عشر. فقد كان القدماء يتتبعون حركته عبر السماء ولكنهم لم يعرفوا عن تكوينه أو تفاصيل مداره. وقد تم اكتشافه لأول مرة باستخدام التلسكوب عن طريق الفلكي كريستيان هويغنز عام 1631م ومن هنا بدأت رحلة دراسة هذا الكوكب.
الخصائص الفريدة لعطارد
يتميز بعدد من الخصائص الفريدة التي تجعله مميزاً؛ فيدور حول محوره مرة واحدة كل 59 يوماً أرضياً، بينما يستغرق 88 يوماً فقط لإتمام دورة حول الشمس. وتصل درجات الحرارة على سطحه إلى أكثر من 400 درجة مئوية في النهار، بينما تنخفض إلى -180 درجة مئوية خلال الليل.
ويعود سبب هذا التفاوت في درجات الحرارة إلى عدم وجود غلاف جوي حقيقي كالذي يمتلكه كوكب الأرض، إنما هو محاط بغلاف خارجي بالغ الرقة يُعرف باسم الإكسوسفير (Exosphere). وهذا الإكسوسفير لا يُعد غلافاً جوياً بالمعنى التقليدي لأنه لا يستطيع تأمين حماية من الإشعاع أو الحفاظ على درجة حرارة مستقرة. ويتكوّن من ذرات متناثرة جداً مثل الصوديوم والهيدروجين والأكسجين والهيليوم والبوتاسيوم والتي تنشأ بفعل تفاعل الرياح الشمسية مع سطح الكوكب.
حركته ودورانه الغريب
يتميّز الكوكب بسلوك مداري ودوراني فريد يجعله محطّ اهتمام علماء الفلك. فكما ذكرنا مسبقاً يعتبر أسرع كواكب المجموعة الشمسية دوراناً حول الشمس، حيث يكمل مداره حول الشمس خلال 88 يوماً أرضياً فقط وحول محوره خلال 59 يوم. إلا أن يوم عطارد الواحد (من شروق شمس إلى شروق شمس) يعادل حوالي 176 يوماً أرضياً!
ويعود هذا التناقض الغريب بين طول اليوم الشمسي وطول السنة على كوكب عطارد إلى ما يُعرف بـ ظاهرة الرنين المداري 3:2.
العنصر | المدة (بالأيام الأرضية) | الوصف |
---|---|---|
مدة الدوران حول المحور (اليوم النجمي) | 59 يوماً | المدة التي يستغرقها عطارد لإتمام دورة واحدة حول محوره |
مدة الدوران حول الشمس (السنة) | 88 يوماً | المدة التي يستغرقها عطارد لإتمام مدار واحد حول الشمس |
طول اليوم الشمسي الكامل (من شروق إلى شروق) | 176 يوماً | بسبب ظاهرة الرنين المداري 3:2 بين دورانه حول محوره ومداره حول الشمس |
ظاهرة الرنين المداري حالة فريدة لا تحدث بهذا الشكل في أي كوكب آخر. ففي هذا النمط من الرنين يكمل عطارد ثلاث دورات كاملة حول محوره مقابل كل دورتين حول الشمس. أي أن الكوكب يدور حول نفسه ببطء شديد مقارنة بسرعته المدارية حول الشمس.
وما يجعل الأمر أكثر غرابة هو ما يترتب على هذا الرنين: فبسبب العلاقة الدقيقة بين مدة الدوران حول المحور ومدة المدار حول الشمس؛ فإن اليوم الشمسي الكامل (المدة بين شروقين متتاليين للشمس على نفس النقطة من سطح الكوكب) يمتد إلى 176 يوماً أرضياً. وبمعنى آخر؛ اليوم الواحد على سطحه -من شروق الشمس إلى شروقها التالي- أطول من سنته!
هذا التزامن في الحركة يحدث نتيجة التأثيرات الشديدة لجاذبية الشمس على كوكب عطارد نظراً لقربه الكبير منها. وهو ما يضبط دورانه في هذا الرنين الفريد ويمنع تغيره بسهولة عبر الزمن. ولهذا السبب فإن سطح عطارد يشهد دورات حرارية قاسية وطويلة؛ حيث تظل جهة واحدة من الكوكب معرّضة لأشعة الشمس لفترة طويلة جداً، بينما تبقى الجهة الأخرى في ظلامٍ وجليدٍ نسبي.
سطح عطارد: عالم من الفوهات والتضاريس القاسية
يُشبه سطح كوكب عطارد إلى حد بعيد سطح القمر؛ إذ يغلب عليه الطابع الصخري المغطى بالفوهات الصدمية التي تنتج عن اصطدام النيازك والكويكبات على مدى مليارات السنين. هذا السطح القاحل والجاف يعكس تاريخاً جيولوجياً عنيفاً حيث لا توجد أي عملية تآكل بفعل الرياح أو المياه لتخفيف آثار هذه الفوهات وذلك نظراً لافتقاره إلى غلاف جوي فعّال. وتتناثر على امتداد سطح عطارد أخاديد طويلة وتضاريس متعرجة تُعرف بـ المنحدرات الصدعية (lobate scarps) وهي دلالة على انكماش الكوكب تدريجياً مع برودة نواته. وهذا الانكماش يحدث ببطء مع مرور الزمن؛ إذ تؤدي برودة نواته الحديدية إلى انكماش داخلي مما يُسبب تشققات وتجاعيد في سطحه تشبه الطيّات الجيولوجية.
من بين أبرز معالمه الجيولوجية تبرز فوهة حوض كالوريس (Caloris Basin)؛ وهي أحد أضخم الفوهات المعروفة في النظام الشمسي بقطر يقارب 1,550 كيلومتراً. تشكّلت هذه الفوهة بفعل ارتطام هائل وأدت إلى تموجات جيولوجية على الجانب المقابل من الكوكب يُعتقد أنها نتيجة الصدمة الارتدادية للارتطام.
ورغم التشابه السطحي بين عطارد والقمر إلا أنه يتميز بكثافته الأعلى وتركيبه الداخلي المختلف وهذا يعطي فوهاته حوافاً أكثر انضغاطاً وتضاريس أكثر تعقيداً. كما أن حرارة سطحه المرتفعة في النهار وانخفاضها الحاد في الليل تؤثر بشكل كبير في تشقق الصخور وتكوين معالم فريدة.
هل يمتلك أقماراً؟
على عكس الكواكب الأخرى فإنه لا يمتلك أي قمر طبيعي يدور حوله. ويمكن القول أن جاذبيته الضعيفة نسبياً وقربه الشديد من الشمس يمنعانه من الاحتفاظ بأي قمر ثابت إذ أن أي جسم صغير يقترب منه ينجذب بسهولة إلى قوة الشمس أو يُقذف خارج مداره بفعل اضطرابات الجاذبية.
ذيل عوضاً عن قمر!
رغم أن الذيل يُعد من السمات المميزة للمذنبات؛ إلا أن كوكب عطارد يمتلك ظاهرة مشابهة تُعرف باسم الذيل الكوكبي (Planetary Tail). ويتكوّن هذا الذيل من ذرات الصوديوم (Na) التي تنبعث من سطح الكوكب بسبب تعرضه المباشر والمستمر للرياح الشمسية القوية.
فعندما تصطدم جسيمات الرياح الشمسية (وهي تيار من البروتونات والإلكترونات المنبعثة من الشمس) بسطحه؛ فإنها تؤيّن بعض الذرات (وخاصة الصوديوم) وتنتزعها من الصخور السطحية. هذه الذرات تُدفع بعيداً بسرعة عالية نحو الفضاء مكوّنةً ذيلاً طويلاً يمتد خلف الكوكب في الاتجاه المعاكس للشمس تماماً مثل ذيل المذنب.
يتميز هذا الذيل بطول يُقدَّر بملايين الكيلومترات، ويتوهج بلونٍ أصفر برتقالي باهت نتيجة تشتت الضوء الشمسي على ذرات الصوديوم، ويمكن رصده أحياناً من الأرض باستخدام فلاتر خاصة تركّز على الضوء المنبعث من الصوديوم.
![]() |
صورة تظهر كوكب عطارد مع ذيله من الأرض ملتقطة بواسطة المصور الفلكي سيباستيان فولتمر |
وإذا تساءلنا لماذا الصوديوم بالذات؟
فببساطة لأن سطحه غني نسبياً بعناصر خفيفة كالصوديوم والبوتاسيوم وهي تُعد أكثر العناصر قابلية للتبخر والانبعاث عند تعرضها للإشعاع الشمسي والاصطدامات.
الحركة الراجعة: خداع بصري في سماء الأرض
من منظور الراصد على الأرض يُظهر الكوكب في بعض الأوقات ما يُعرف بـ "الحركة التراجعية الظاهرية" (Retrograde Motion). وهي ظاهرة فلكية يَبدو فيها الكوكب وكأنه يتحرّك إلى الخلف (من الشرق إلى الغرب) عبر السماء، على عكس حركته المعتادة (من الغرب إلى الشرق). هذا التراجع لا يحدث فعلياً في مسار عطارد بل هو نتيجة لاختلاف سرعتي الأرض وعطارد في مداريهما حول الشمس.
فعندما يقترب كوكب الأرض منه في مداره الداخلي -كونه أقرب إلى الشمس- ويقوم بتجاوزه؛ فإن عطارد يظهر كأنه يتراجع مؤقتاً أمام الخلفية النجمية. ويمكن تشبيه الأمر بسيارتين تسيران في مسارين دائريين مختلفين؛ عندما تتجاوز السيارة الأسرع الأخرى، يبدو وكأن السيارة الأبطأ ترجع إلى الخلف رغم أنها في الواقع لا تفعل ذلك.
هل يمكن العيش عليه؟
رغم قربه من الأرض نوعاً ما إلا أنه يُعد بيئة شديدة القسوة وغير مناسبة إطلاقاً للحياة البشرية. فغلافه الجوي شبه معدوم ولا يوفر أي حماية من الإشعاع الشمسي أو الحفاظ على حرارة سطحه مما يترك الإنسان في مواجهة مباشرة مع الظروف الفضائية القاسية. وقد أشرنا سابقاً إلى الفرق الهائل بين حرارة النهار وبرودة الليل، وهو أمر يجعل البقاء على سطحه مستحيلاً بدون دروع حرارية معقدة وتقنيات عزل متقدمة لم تصل تقنياتنا إليها بعد.
كما أن غلافه الجوي الرقيق لا يحتوي على الأوكسجين ويعجز عن صد النيازك أو تقليل الإشعاع الكوني، مما يضيف خطراً مضاعفاً لأي محاولة استيطان.
وحتى اليوم لم يتم رصد أي شكل من أشكال الحياة على سطحه لا من الكائنات الدقيقة ولا من الكائنات المعقدة.
عطارد في عيون البعثات الفضائية
الكوكب ليس ببعيد عن الأرض مقارنةً بالكواكب الخارجية، إلا أن استكشافه ظل محدوداً بسبب التحديات التقنية التي تفرضها جاذبيته الضعيفة وقربه الشديد من الشمس. ومع ذلك فقد لعبت ثلاث بعثات رئيسية دوراً محورياً في كشف أسراره..
بعثة مركبة مارينر 10 (Mariner 10)
كانت أول مركبة فضائية تقترب من كوكب عطارد وقد أطلقتها وكالة ناسا عام 1973م. استخدمت تقنية التحليق بجوار كوكب الزهرة للوصول إليه، وكانت أول مركبة في التاريخ تستخدم الجاذبية لتغيير مسارها. مرّت مارينر 10 بثلاث علميات تحليق قربه بين عامي 1974م و1975م وقدمت أول الصور المقرّبة لسطحه المليء بالفوهات وهذا ما سمح للعلماء برسم خرائط أولية له رغم أنها غطت أقل من نصف سطح الكوكب.
بعثة مركبة ماسنجر (MESSENGER)
وهي اختصار لـ Mercury Surface, Space Environment, Geochemistry, and Ranging، أُطلقت عام 2004م ووصلت إلى مدار عطارد عام 2011م لتصبح أول مركبة تدور حوله. وقد أجرت المركبة أكثر من 4000 دورة حول الكوكب حتى تحطمها المتعمّد على سطحه عام 2015م. ووفّرت معلومات غير مسبوقة عن تركيبة الكوكب الداخلية وتكوينه الكيميائي بالإضافة إلى خرائط شاملة لتضاريسه ومجاله المغناطيسي.
![]() |
آخر صورة التقطتها مركبة ماسنجر قبل أن تتحطم |
كما كشفت عن أدلة تشير إلى وجود جليد ماء داخل الفوهات القطبية المظللة بشكل دائم وهو اكتشاف مثير في كوكب يفترض أنه جاف تماماً.
بعثة بيبي كولومبو (BepiColombo)
هي مهمة فضائية مشتركة بين وكالة الفضاء الأوروبية (ESA) ووكالة الفضاء اليابانية (JAXA) تهدف إلى دراسة كوكب عطارد بشكل شامل، وقد أُطلقت في أكتوبر 2018م ومن المتوقع أن تصل إلى مداره في نوفمبر 2026 بعد سلسلة من المناورات المعقدة.
![]() |
صورة حديثة ملتقطة بواسطة مركبة البعثة لشمال الكوكب المضاء بواسطة الشمس |
تتكون المهمة من مركبتين: واحدة لدراسة السطح والبنية الجيولوجية (MPO)، وأخرى لتحليل المجال المغناطيسي (Mio). تهدف بيبي كولومبو إلى فهم تركيبته الداخلية وغلافه الجوي الرقيق ومجاله المغناطيسي، إضافة إلى اختبار نظرية النسبية. وقد التقطت صوراً مبكرة كشفت عن فوهات قطبية مظلمة قد تحتوي على جليد ماء، مما يجعلها من أكثر المهام الفضائية الواعدة لفهم هذا الكوكب الغامض.
خاتمة
في ختام حديثنا عن كوكب عطارد، يتبيّن لنا أنه ليس مجرد صخرة ملتهبة تدور على مقربة من الشمس؛ بل هو سجل كوني يحمل في طياته أسرار البدايات الأولى لتشكّل نظامنا الشمسي.
في عزلته وصمته العميق وفي تضاريسه التي لم تنل منها تقلبات الزمن، يبدو عطارد كرفيق مخلص للشمس. يقف بثبات في وجه الإشعاع الكوني، شاهداً على عصور خلت ومراحل تشكّلت فيها اللبنات الأولى لعالمنا.
فيذكرنا بأن أقرب الأجسام إلينا في الفضاء ليست بالضرورة الأقل إثارة، بل لعلّ في هذا القرب دعوة للتأمل؛ لنتوقف ونتأمل في حكمة الخالق سبحانه الذي أبدع هذا الكون بميزان دقيق ونظام محكم. وفي عطارد كما في سائر خلق الله آياتٌ تدعونا للتفكّر:
﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [آل عمران: 190].
فلننظر إلى هذا الكوكب لا كجرم بعيد، بل كجارٍ كوني يتحدث بلغة الصمت وينتظر من الإنسان أن يصغي ويتدبر؛ إيماناً بأنَّ في كل ذرة من هذا الكون تجلٍّ من تجليات عظمة الله جلّ وعلا.