كوكب الزهرة؛ ثاني أقرب كوكب إلى الشمس وأكثر الكواكب إثارة للجدل في النظام الشمسي. فرغم أنه يحتل المرتبة السادسة من حيث الحجم بين الكواكب إلا أن تشابهه الغريب مع كوكب الأرض جعله هدفاً دائماً لرحلات الاستكشاف، ومحوراً لأسئلة علمية عميقة: لماذا انتهى إلى هذا المصير بينما سلك كوكب الأرض طريق الحياة؟
يُلقّب بـ توأم الأرض.. ليس لأنه صالح للحياة؛ بل لأنه يشبهها في الحجم والكتلة والتركيب. فهذا التوأم يعيش في جحيم دائم؛ حيث تدور سماؤه بعكس كل الكواكب وتُغطيه سُحب حمضية خانقة إضافة إلى أن سطحه يحترق بحرارة تكفي لصهر الرصاص!
في هذا المقال نزيح الستار عن أسرار هذا الكوكب؛ وعن دورانه العكسي وغلافه السميك ومناخه المتوحش وسطحه المليء بالبراكين الخاملة والنشطة. فإن كنت تظن أن "التشابه يعني القرب".. الزهرة سيجعلك تعيد التفكير في ذلك من جديد!
كوكب الزهرة: البطاقة التعريفية
كوكب الزهرة باللغة العربية اشتقّ اسمه من "الزَّهْر" أي النقاء والبياض واللمعان. وذلك نسبةً إلى مظهر الكوكب اللامع جداً في السماء، وقد أطلق عليه العرب قديماً اسم "نجمة الصباح" أو "نجمة المساء" لأنه يظهر إما قبل شروق الشمس بقليل أو بعد غروبها بقليل، وذلك بسبب موقعه القريب من الشمس ولا يمكن رؤيته في منتصف الليل أبداً لأنه لا يبتعد كثيراً عن الشمس في السماء. أما بالإنكليزية فاسمه كوكب فينوس (Venus) وهو اسم يُطلق على ما كانت الحضارات الرومانية تزعم أنه إلهة للحب والجمال. ورغم وجود هذا الاختلاف في الأصل اللغوي إلا أنَّ الاسمَين يعكسان نفس الانطباع البصري والجمالي الذي يتركه الكوكب عند رصده من الأرض.
يقع الزهرة بين كوكب عطارد وكوكب الأرض ويعتبر الكوكب الثاني من حيث قربه من الشمس بعد عطارد؛ إذ يبعد عنها حوالي 108 مليون كيلومتر وهو أحد أسطع الأجسام في سماء الأرض بعد الشمس والقمر ويمكن رؤيته ورصده بسهولة بالعين المجردة.
يدور حول الشمس في مدار شبه دائري يستغرق إكماله حوالي 225 يوماً أرضياً. لذا فإن السنة على الزهرة أقصر من السنة على الأرض، ولكن المدهش هو دورانه حول محوره ببطء شديد أكثر بكثير. حيث يستغرق حوالي 243 يوماً أرضياً لإكمال دورة واحدة حول نفسه، أي أن قضاء يوم واحد عليه أطول من قضاء عام!
والأكثر غرابة أن حركته الدورانية تتم بعكس اتجاه دوران معظم الكواكب الأخرى وهي ظاهرة تُعرف بالدوران "التراجعي" أو الدوران مع عقارب الساعة. ويتفرد بهذه الخاصية في المجموعة الشمسية فقط هو وكوكب أورانوس.
وبتوضيح أبسط عن فكرة الدوران مع عقارب الساعة وبعكسها في الفضاء؛ إذا نظرنا إلى كواكب النظام الشمسي من أعلى القطب الشمالي للشمس، سنجد أن معظم الكواكب بما فيها الأرض تدور حول نفسها بعكس اتجاه عقارب الساعة وهو ما يدعى بالدوران التقدّمي (Prograde rotation). بينما كوكب الزهرة يدور حول نفسه باتجاه عقارب الساعة وهو ما يُعرف بالدوران الرجعي (Retrograde rotation). أما أورانوس فهو حالة فريدة نوعاً ما؛ فهو يميل على جانبه بشدة (حوالي 98 درجة) لكن بالمحصلة دورانه حول نفسه يعتبر رجعي أيضاً.
يعتبر الكوكب ذو نظام بسيط نسبياً من حيث البنية المدارية؛ فهو لا يمتلك أي أقمار تدور حوله، وليس لديه أي حلقات كما هو الحال في بعض الكواكب كزحل والمشتري. ولا يشهد تغيرات موسمية واضحة بسبب الميل الطفيف لمحوره، والذي لا يتجاوز 3 درجات. فهذا الميل المحدود يعني أن كمية ضوء الشمس التي تصله لا تتفاوت كثيراً بين مناطقه، مما يؤدي إلى استقرار حراري نسبي في جميع أنحائه.
الغلاف الجوي والحرارة القاتلة
إن الغلاف الجوي لكوكب فينوس من أكثر الأغلفة الجوية تطرفاً وسُميةً في النظام الشمسي؛ إذ يتكوّن بنسبة تفوق 96% من ثاني أكسيد الكربون إضافة إلى نسبة ضئيلة من النيتروجين وآثار من الغازات السامة كثاني أكسيد الكبريت.
هذا التركيب يخلق بيئة خانقة وغير قابلة للحياة بأي شكل، ويشكّل أساساً لما يُعرف بـ الاحتباس الحراري الجامح (Runaway Greenhouse Effect). وهي حالة قصوى من احتباس الحرارة داخل الغلاف الجوي، تحدث عندما يحتجز الغلاف الجوي كميات هائلة من الحرارة دون أن يسمح بتسربها إلى الفضاء. فالغلاف الجوي للزهرة يعمل كغطاء كثيف يعيق الأشعة تحت الحمراء التي تنبعث من سطح الكوكب بعد امتصاصه لضوء الشمس مانعاً إياها من الخروج إلى الفضاء، وهو ما يؤدي إلى تراكم الحرارة تدريجياً مع مرور الوقت
وبخلاف الأرض فإن كوكب الزهرة لا يحتوي على محيطات لامتصاص الكربون أو لتنظيم حرارته، ولا توجد دورة مائية تساهم في تبريد سطحه. وذلك يعني أن كل الحرارة الممتصة تُحبس بكفاءة شبه تامة داخل الغلاف الجوي وهذا يودي إلى ارتفاع مستمر في درجة الحرارة. وهكذا وصلت الحرارة السطحية إلى نحو 465 درجة مئوية (ما يكفي لصهر الرصاص)، وهي درجة حرارة أعلى من درجة حرارة سطح عطارد رغم أنه الأقرب إلى الشمس.
ويُغطَّى الزهرة بطبقات كثيفة من السحب الحمضية المشبعة بحمض الكبريتيك، حيث تحجب هذه السحب الضوء وتمنع الرؤية المباشرة لسطحه وذلك يصعّب من مهام الاستكشاف. كما أن الضغط الجوي على سطح الزهرة يعادل 92 مرة ضعف الضغط الجوي الأرضي، وهو ما يعادل الضغط على عمق نحو كيلومتر في محيطات الأرض. وكلُّ هذه الظروف القاسية حوّلت الكوكب إلى معمل طبيعي لدراسة تطرف المناخ والظواهر الفيزيائية في الأغلفة الجوية، كما أثارت اهتمام الباحثين بدراسة احتمالات مشابهة قد تواجه الأرض في مستقبل بعيد في حال تطورت ظاهرة الاحتباس الحراري بنفس الحدة.
سطح الكوكب المليء بالبراكين
بالانتقال إلى سطح كوكب الزهرة فإنه يعتبر من أكثر الأسطح غموضاً من بين بقية كواكب المجموعة الشمسية؛ وذلك نظراً لغياب المياه تماماً ولفرط النشاط البركاني الذي شكّل تضاريسه عبر ملايين السنين.
يتكوّن السطح من سهول بازلتية شاسعة، تتخللها جبال شاهقة مثل جبل "ماعت مونز" إضافة إلى البراكين العملاقة التي يرجح أن بعضها لا يزال نشطاً حتى اليوم. ورغم أن الكوكب يُغطّى بطبقة كثيفة من السحب الحمضية، إلا أن الصور الرادارية التي التقطتها بعثات مثل "ماجلان" أظهرت تفاصيل مدهشة لسطح يزخر بالبراكين المخروطية والقباب البركانية المسطحة، في مشهد يوحي بجمال فائق بفعل انعكاسات التضاريس تحت الغيوم الكثيفة.
الغطاء السحابي الكثيف المؤلف أساساً من حمض الكبريتيك كما قلنا سابقاً يعيق الرؤية المباشرة للسطح مما يجعل الرصد من الأرض شبه مستحيل ويستلزم استخدام تقنيات الموجات الرادارية لاختراق الغلاف الجوي وكشف طبيعة سطح الزهرة. وتُظهر الدراسات أن الزهرة يفتقر إلى الصفائح التكتونية النشطة كالذي يمتلكها كوكب الأرض، إلا أنّ الحرارة الداخلية تندفع إلى السطح من خلال نشاط بركاني متقطع. أي أن البراكين لا تثور بشكل دائم أو منتظم بل تحدث فترات من الثوران تليها فترات من الخمول وقد تمر آلاف أو ملايين السنين بين كل نشاط وآخر.
وهذا النمط من النشاط بالتحديد هو ما يستند إليه العلم في أن الزهرة لا يحتوي على صفائح تكتونية تتحرك باستمرار. حيث أن الحرارة داخل الكوكب تبقى تبحث عن منفذ للخروج؛ فتندفع أحياناً إلى السطح على شكل ثوران مفاجئ أو محدود النطاق يؤدي إلى تكوّن براكين أو تدفقات حمم جديدة.
الزهرة والأرض: تشابه أم تضاد؟
رغم ما يبديه كوكب الزهرة من بيئة قاسية إلا أنه أكثر الكواكب شبهاً بالأرض من حيث الحجم والكثافة والتركيب الصخري وهذا ما دفع العلماء لتسميته بـ"توأم الأرض". فيبلغ قطر الزهرة حوالي 12,104 كيلومتر أي ما يقارب 95% من قطر الأرض، كما أن كتلته تبلغ نحو 81% من كتلة الأرض وهذا يعكس تقارباً كبيراً في البنية الداخلية وتكوّن الطبقات.
ولكن هذا التشابه الفيزيائي يخفي تناقضاً جذرياً في الظروف البيئية. فالزهرة كما قلنا آنفاً يمتلك غلافاً جوياً خانقاً ودرجات حرارة سطحية عالية وهو ما يجعل الحياة عليه مستحيلة، على عكس كوكب الأرض الذي يتمتع بغلاف معتدل يحافظ على التوازن الحراري ويتيح وجود الماء والحياة.
وبالتالي فرغم أن الزهرة والأرض شقيقان في البنية إلا أنهما عالمان متضادان تماماً في قابلية الحياة وتطور المناخ، لذا يمكن أن نعتبرهما نموذجاً مثالياً لفهم تأثير الغلاف الجوي على مصير الكواكب الصخرية.
البعثات الخاصة باستكشاف فينوس
بقي كوكب الزهرة برغم بيئته الصعبة هدفاً مهماً للبعثات الفضائية، وذلك بالأخذ بعين الاعتبار ما قد يكشفه من أسرار حول تطور الكواكب الصخرية. فبدأت أولى محاولات الاستكشاف الجديّة في ستينيات القرن الماضي وكان للاتحاد السوفييتي السبق عبر سلسلة بعثات فينيرا التي سجّلت أول هبوط ناجح على سطح الزهرة عام 1975م من خلال مسبار فينيرا 9. وقد أرسل صوراً مباشرة إلا أنه لم يصمد إلا لبضع دقائق بسبب الظروف القاسية. تبعه بعثات أخرى مثل فينيرا 13 الذي أرسل أول صوت من كوكب آخر.
وفي تسعينيات القرن الماضي أطلقت وكالة ناسا مركبة ماجلان التي اعتُبرت نقلة نوعية في استكشاف الكوكب، وخصوصاً مع اعتمادها على رادار اختراق السحب (SAR)، القادر على تصوير سطح الكوكب بدقة عالية رغم الغلاف الكثيف الذي يحجُب الضوء المرئي. وخلال مهمتها التي استمرت من عام 1989م حتى 1994م استطاعت المركبة رسم خريطة تغطي أكثر من 98% من سطح الزهرة موثقةً آلاف الهياكل البركانية. وأظهرت أن الزهرة تغلب عليه الطبيعة الصخرية والنشاط الجيولوجي الواسع مع وجود احتمالات على تجدد سطحه بفعل تدفقات الحمم.
![]() |
صورة رادارية بواسطة مركبة ماجلان |
وفي عام 2015م دخلت وكالة الفضاء اليابانية JAXA السباق عبر مهمة أكيس (Akatsuki) والتي خصصت لدراسة الطقس والغلاف الجوي بشكل خاص. وعلى الرغم من تعثّر دخول المركبة إلى مدار الزهرة في البداية بسبب عطل في المحرك تمكّنت الفرق الهندسية من تعديل المسار بنجاح لتدخل المدار في نهاية عام 2015م. ومنذ ذلك الحين تعمل "أكيس" على دراسة الغيوم وأنماط الدوران الجوي الفائق ودرجات الحرارة عبر عدة أطوال موجية. وهو ما أتاح أول رؤية متكاملة عن حركة الرياح والتيارات في طبقات الغلاف العليا وساهم في تعزيز الفهم حول سلوك الغلاف الجوي للكوكب.
هل توجد حياة على كوكب الزهرة؟
رغم الظروف الجهنمية على سطح كوكب الزهرة، إلا أن فكرة وجود أشكال بسيطة من الحياة في غلافه الجوي لا تزال تثير اهتمام العلماء. وقد اشتد الجدل العلمي في السنوات الأخيرة ولا سيما بعد إعلان فريق بحثي من جامعة MIT عام 2020م عن اكتشاف غاز الفوسفين (PH₃) في طبقات السحب العليا، وهو غاز يُعتبر مؤشراً بيولوجياً محتملاً لأنه ينتج غالباً عن كائنات حية دقيقة في بيئات فقيرة بالأوكسجين.
هذا الاكتشاف أعاد فتح الباب أمام فرضيات علمية مثيرة تعتقد بإمكانية وجود ميكروبات مقاومة للحمض تعيش على ارتفاعات تتراوح بين 48 و60 كم فوق السطح، حيث تكون درجات الحرارة والضغط أقرب إلى ظروف الأرض. ومع ذلك فإن هذا الفرض لا يزال محل جدل واسع إذ يرى بعض الباحثين أن الفوسفين قد ينشأ من تفاعلات كيميائية غير عضوية لم تُفهم بعد في بيئة الزهرة الفريدة.
خاتمة
قد يبدو كوكب الزهرة مجرد نقطة لامعة نراها تزيّن السماء؛ لكنّه في الحقيقة عالَم متوحش ومتقلب يحمل في غموضه دروساً مذهلة عن تطور الكواكب وعن مصير كوكب الأرض إن خرج عن توازنه. ومن بين غيومه الحمضية وحرارته اللافحة يطلّ علينا كتذكير صارخ بأن الشبه لا يعني التطابق وأن الجمال الظاهري قد يخفي تحولات عميقة تحت السطح. فكلما اقتربنا منه علمياً ابتعد عنا بأسراره. وربما في هذا التناقض تحديداً يكمن سرّ افتتان البشرية به عبر العصور.