أقسام الوصول السريع (مربع البحث)

آخر الأخبار

الشفق القطبي: كيف يخاطب ضوء الليل قلوب البشر؟

الشفق القطبي.. ظاهرة سماوية غامضة تتكرر فوق رؤوسنا في أماكن محددة من العالم.. تظهر وتختفي لتترك خلفها أسئلة أكثر من الإجابات.

لماذا يحدث الشفق وأين يحدث؟ وهل تقتصر روعته على الألوان والضوء، أم أن له تأثيراً أعمق على حياة البشر؟

صورة تظهر شفق قطبي بلون أخضر

بين صور تأسر الأبصار وألوان تتبدل في صمت الليل؛ تختبئ حقائق علمية عديدة. وفي هذا المقال سنغوص في عالم الشفق القطبي لنستكشف أنواعه وألوانه وأضراره ومنافعه. إضافةً إلى التعرف على مواقع ظهوره وتأثيره المحتمل على الإنسان.


ما هو الشفق القطبي ولماذا يحدث؟

الشفق القطبي (بالإنكليزية Aurora) ظاهرة تحدث عندما تطلق الشمس رياحاً شمسية تحمل جسيمات مشحونة تتطاير عبر الفضاء بسرعة عالية وبطريقة مشابهة لرذاذ منبعث من خرطوم ماء بضخ قوي. وعندما تقترب هذه الجسيمات من الأرض؛ تصطدم بطبقات الغلاف الجوي العلوية ولا تدخل كلها بسهولة؛ لأن الأرض محاطة بدرع غير مرئي يدعى المجال المغناطيسي الأرضي. هذا الدرع يغيّر مسار الجزيئات ويبعدها عن معظم مناطق العالم.

خطوط هذا المجال المغناطيسي تتجمّع وتتقارب عند القطبين. مما يوفّر ممرات مفتوحة للجسيمات الشمسية إلى الغلاف الجوي، وهو ما يسمح لها بالدخول والاصطدام بجزيئات الهواء في أعلى الغلاف الجوي. وتحديداً تصطدم بذرات الأوكسجين والنيتروجين مؤديةً إلى إطلاق أضواء ملوّنة تظهر في السماء على شكل أشرطة متحركة أو تموجات.

وإن تساءلت:

لماذا يحدث الشفق القطبي في القطبين فقط؟

فالجواب يتمثل في أن المجال المغناطيسي للأرض يتخذ شكلاً يشبه المغناطيس الثنائي القطبية (كقضيب مغناطيسي). حيث تخرج خطوط المجال من القطب الجنوبي وتدخل في القطب الشمالي. هذه الخطوط تكون أفقية ومتباعدة عند خط الاستواء المغناطيسي. وتتقارب وتتجمع وتتوجه نحو الداخل (تتقوس وتنحني لتصبح عامودية) كلما اقتربنا من القطبين.

أي أن تجمّع وتركّز الخطوط المغناطيسية هو المسبب لوجود نقاط الدخول الأساسية للجسيمات الشمسية في القطبين. فالتجمّع يجعلها أكثر انفتاحاً على الجسيمات القادمة من الفضاء، بمعنى أن الجسيمات تجد ممرات مفتوحة للوصول إلى الغلاف الجوي. وذلك لأن مسارات المجال المغناطيسي تنزل بشكل شبه عمودي نحو الأرض، بدلاً من الالتفاف كما يحدث عند خط الاستواء. لذا لا يظهر هذا الضوء العجيب إلا في الأماكن القريبة من القطبين ونادراً جداً ما يُشاهد في مناطق أخرى.


أين يظهر الشفق القطبي؟

يتساءل الكثيرون: أين يظهر الشفق القطبي؟

حسناً؛ الإجابة تبدأ من خطوط العرض العالية للأرض. حيث تتواجد هذه الظاهرة الساحرة في نطاق يعرف بـ"المنطقة الشفقية" المحيطة بكل من القطب الشمالي والجنوبي.

ففي النصف الشمالي من الكرة الأرضية، تعدّ دول مثل (النرويجالسويدفنلنداكنداآيسلنداغرينلاند..) من أبرز المواقع التي يظهر فيها الشفق القطبي بشكل منتظم خلال فصل الشتاء. كما تعتبر ولاية ألاسكا الأمريكية من أشهر الوجهات السياحية لمشاهدة هذه الأضواء الساحرة.

أما في النصف الجنوبي فيُشاهد الشفق في أماكن أقل شهرة بسبب صعوبة الوصول إليها.. وأبرز هذه الأماكن هي القارة القطبية الجنوبية (أنتاركتيكا) وجنوب نيوزيلندا وتسمانيا في أستراليا.

وجدير بالذكر أن نشاط الشفق يزداد في أوقات العواصف الشمسية.. والتي لا ترتبط بفصول السنة بل بدورات شمسية تستمر قرابة 11 عاماً. وقد يمتد ظهوره إلى مناطق أبعد قليلاً عن القطبين خلال فترات النشاط الشمسي المرتفع. إلا أنه نادراً ما يظهر في المناطق الاستوائية أو القريبة من خط الاستواء.

لماذا نرى الشفق القطبي أكثر في الشتاء إذاً؟

كما أردفنا مسبقاً.. العواصف الشمسية لا ترتبط إطلاقاً بفصول السنة على الأرض.. فهي ناتجة عن نشاط الشمس وتحديداً عن الانفجارات الشمسية (solar flares) والانبعاثات الكتلية الإكليلية (CMEs)، والتي تتبع دورة تعرف بـ الدورة الشمسية والتي تصل مدّتها تقريباً إلى 11 سنة.

صورة لشفق قطبي بلون زهري وأصفر

لذا فإن حلول فصل الشتاء لا يعني بالضرورة زيادة في العواصف الشمسية. ومشاهدة الظاهرة بشكل أكبر في الشتاء يمكن تبريره بأسباب بسيطة:

• الليالي أطول وأكثر ظلمة.

• السماء تكون أكثر صفاءً في بعض المناطق.

وبالتالي تُصبح فرصة رؤية الشفق أعلى لكن ليس لأن النشاط الشمسي قد زاد.


ألوان الشفق القطبي ومعانيها

من أكثر ما يذهل الناظر في السماء عند حدوث هذه الظاهرة هو تنوع ألوان الشفق القطبي التي تسبح في الأفق بطريقة متموجة وألوان سحرية. ولكن وراء هذا الجمال البصري تكمن تفسيرات علمية دقيقة؛ إذ تختلف ألوان الشفق باختلاف نوع الغاز الذي تصطدم به الجسيمات الشمسية في الغلاف الجوي، وبارتفاع هذا التصادم عن سطح الأرض.

صورة لشفق قطبي بلون أخضر وأزرق

الأخضر هو اللون الأكثر شيوعاً في ألوان الشفق القطبي، وينتج عندما تصطدم الجسيمات المشحونة بذرات الأوكسجين على ارتفاع يتراوح بين 100-200 كيلومتر.

الأحمر يظهر في حالات أقل تكراراً وينتج أيضاً عن تفاعل الجسيمات مع الأوكسجين ولكن على ارتفاعات أعلى (≥200 كيلومتر)، حيث يكون الضغط الجوي أقل مما يسمح بظهور هذا اللون الهادئ.

صورة تظهر شفق بلون بنفسجي وأخضر

البنفسجي والأزرق ينبعثان عند تفاعل الجسيمات مع النيتروجين، وغالباً ما يظهران في الأطراف السفلى من الشفق أو يتداخلان مع الأخضر لإنتاج ألوان متدرجة جميلة. البنفسجي ينتج على ارتفاع (≤100 كيلومتر)، والأزرق على ارتفاع بين 100-200 كيلومتر.

• وفي بعض الحالات النادرة قد ترصد ألوان مائلة إلى الأصفر أو البرتقالي وهي ناتجة عن تداخل بين الضوء الأخضر والأحمر أو بسبب حالات جوية خاصة.

ومنه نستنتج أن كل لون من ألوان الشفق القطبي في هذا العرض السماوي هو نتيجة تفاعل فيزيائي معقد بين مكونات الغلاف الجوي والجسيمات القادمة من الشمس.


أنواعه

بالرغم من أن الشفق القطبي يبدو كظاهرة واحدة بعدة ألوان للعين المجرّدة، إلا أن العلماء صنّفوه إلى أنواع مختلفة بناءً على شكله وموقع ظهوره وآلية تشكّله؛ مما يمنحنا فهماً أعمق لهذه الظاهرة.

وتشير الدراسات إلى أن أنواع الشفق القطبي تختلف بشكل ملحوظ، بدءاً من اختلاف أنماطه البصرية وصولاً إلى ندرة ظهوره في بعض المناطق..

شفق قطبي بلون أزرق

1. الشفق القطبي (Polar Aurora):

هو النوع الأكثر شيوعاً ويعرف أيضاً باسم "الأضواء الشمالية" في نصف الكرة الشمالي و"الأضواء الجنوبية" في نصف الكرة الجنوبي. يظهر هذا النوع ضمن "المنطقة الشفقية" المحيطة بكل من القطبين المغناطيسيين، وهو الناتج المباشر لتفاعل الجسيمات الشمسية مع المجال المغناطيسي للأرض.

2. الشفق الشريطي (Arc Aurora):

يظهر على شكل قوس مستطيل أو شريط ضوئي يمتد أفقياً في السماء، ويعتبر من الأنماط المنتظمة والمستقرة نسبياً. غالباً ما يكون بلون أخضر، ويظهر في بداية النشاط الشفقي.

3. الشفق المتموّج أو المتحرّك (Corona أو Pulsating Aurora):

يتخذ شكل دوامات أو تموّجات متغيرة بسرعة وقد يظهر فجأة ثم يتلاشى، ويرجح العلماء أنه ناتج عن تغيرات سريعة في المجال المغناطيسي الأرضي.

4. الشفق النبضي (Pulsating Aurora):

يظهر على شكل ومضات ضوئية تتكرّر كل بضع ثوانٍ، وغالباً ما يومض في الساعات التي تلي أقصى نشاط للشفق.

5. الشفق القطبي الاستوائي (Equatorial Aurora):

هو شفق نادر جداً ولا يمكن رؤيته إلا في ظروف قصوى من النشاط الشمسي، حين تندفع كميات هائلة من الجسيمات الشمسية بقوة غير معتادة فتخترق خطوط المجال المغناطيسي حتى تصل إلى مناطق قريبة من خط الاستواء. وقد تم تسجيل حالات نادرة منه في مناطق مثل هاواي والمكسيك خلال عواصف شمسية هائلة.


منافعه وأضراره

رغم أننا نعتبر هذه الظاهرة من أبهى الظواهر الطبيعية الغريبة إلا أن النظر إليها من زاوية علمية يكشف عن جانبين متناقضين فهي تمتلك منافع وأضرار بالنسبة لكوكب الأرض.. أي أنها ظاهرة مزدوجة التأثير تجمع بين الجمال والمخاطر.

من جهة المنفعة لا يمكن إنكار الفوائد الجمالية والسياحية المرتبطة بالشفق. إذ تُعدّ المناطق التي يظهر فيها الشفق القطبي وجهات سياحية عالمية، حيث يسافر الآلاف سنوياً إلى دول كآيسلندا والنرويج لمشاهدته. وهذا ينعش الاقتصاد المحلي ويعزز البنية التحتية السياحية.

لكن في المقابل ترافق هذه الظاهرة أضرار محتملة لا يمكن رؤيتها بالعين المجرّدة.. فالعواصف الشمسية التي تسبب الشفق قد تطلق كميات هائلة من الجسيمات المشحونة والتي بدورها تؤثر سلباً على أنظمة الملاحة الجوية والأقمار الصناعية. كما يمكن أن تتعطل إشارات GPS وتتسبب بتداخل في الموجات اللاسلكية، وقد تتسبب في انقطاع الاتصالات الراديوية في بعض المناطق. وفي حالات قصوى قد يؤدي النشاط المغناطيسي القوي إلى تحميل شبكات الكهرباء بفولت عالٍ غير متوقع مما يؤدي إلى إلحاق الضرر بالبنية التحتية الكهربائية.


خاتمة: عندما يتكلم إبداع الخالق.. يصمت العلم

هناك لحظات تقف فيها المعرفة عاجزة أمام عظمة المشهد، فيصمت العلم وتخشع القلوب. ومن بين تلك اللحظات عندما يسطع في السماء الشفق القطبي كآية من آيات الخالق؛ تذكرنا بجمالٍ يفوق الوصف وتدعونا للتفكر في روعة الصنع وإعجاز التقدير.

فما نراه من أضواء ساحرة وألوان متراقصة ليس مجرد تفاعل فيزيائي معقّد.. بل تجلٍ من تجليات قدرة الله تعالى. وفي كل ومضة من ومضات الشفق القطبي هنالك دعوة مفتوحة للتأمل... بأن خلف هذا الجمال علم.. وخلف العلم حكمة.. وخلف الحكمة ربٌ لا يُحدّ كماله بشيء.

AYA BRIMO
AYA BRIMO