برج ساعة مكة: تحفة معمارية تجمع بين الدقة الزمنية والضخامة الهندسية

على ارتفاعٍ يلامس الغيوم وفي واحدة من أكثر المدن كثافة في العالم؛ يقف برج ساعة مكة كصرح معماريّ يعبر عن طموح لا حدود له.

هذا البرج العملاق ليس مجرد أطول ناطحة سحاب في المملكة العربية السعودية حتى الآن؛ بل هو تحفة هندسية أعادت رسم معايير التصميم والإنشاء.

فبمزيج من التقنية الحديثة والبصمة المعمارية الفاخرة أصبح رمزاً للابتكار والتفوق في مجالات العمارة والهندسة وإدارة المشاريع العملاقة.

ما الذي يجعل هذا البرج مختلفاً عن غيره من ناطحات السحاب حول العالم؟ وما الأسرار التي يخفيها في تصميمه وتشغيله ووظائفه المتعددة؟ سنعرف الأجوبة في مقالنا هذا..

عن برج ساعة مكة

يُعد برج ساعة مكة واحداً من أبرز المعالم العمرانية في المملكة العربية السعودية ويصنّف كرابع أطول ناطحة سحاب في العالم بارتفاع يبلغ حوالي 601 متر. وكأطول ناطحة سحاب في المملكة إلى الآن؛ حيث تعمل المملكة حالياً على مشروع ناطحة سحاب بارتفاع يصل إلى 1000 متر يدعى برج جدة. من المتوقع الانتهاء منه عام 2028م، وعند اكتماله سيصبح الأطول ليس فقط في أنحاء المملكة وإنما الأطول في العالم! متخطياً بذلك كل من برج خليفة وبرج ميرديكا 118 وبرج شنغهاي.

وبالعودة إلى برج ساعة مكة فهو يتميز بتصميم أنيق وفخم بهلاله الذهبي الذي يتوّج أعلى نقطة فيه. بالإضافة إلى ساعته العملاقة التي تُعد أكبر ساعة في العالم ويبلغ قطرها نحو 43 متراً وهو ما يجعلها مرئية على بُعد عدة كيلومترات.

يقع في موقع استراتيجي لا مثيل له؛ على بُعد خطوات من المسجد الحرام، ضمن مجمّع أبراج البيت، وهذا جعله مقصداً حيوياً للحجاج والمعتمرين والزائرين من مختلف أنحاء العالم فهو يوفّر إطلالات بانورامية مباشرة على الحرم المكي والكعبة المشرفة.

(مجمع أبراج البيت هو مشروع عمراني ضخم يضم سبع ناطحات سحاب متجاورة أمام المسجد الحرام، أبرزها برج ساعة مكة الملكي بارتفاع 601 متر. يشمل المجمع فنادق فاخرة ومراكز تسوق ومرافق خدمية للحجاج والمعتمرين. بدأ إنشاؤه عام 2002 بقيادة مجموعة بن لادن السعودية، وافتُتح كاملاً رسمياً عام 2012م).

استغرق بناء البرج حوالي 6 سنوات إذ بدأت أعمال الإنشاء فعلياً عام 2004م وتم الانتهاء منه عام 2011م. بينما افتتح رسمياً عام 2012م. وقد تولّى وقف الملك عبد العزيز للحرمين الشريفين تمويل المشروع بوصفه الجهة الممولة الرئيسية. 

من ناحية التصميم والتنفيذ فقد حظي البرج بمشاركة نخبة من الشركات الهندسية العالمية التي تمتلك خبرة طويلة في تصميم وإنشاء ناطحات السحاب الفاخرة والمشاريع الكبرى ذات الطابع المعماري المعقد. وقد تولّت مجموعة بن لادن السعودية -وهي إحدى أضخم شركات المقاولات في الشرق الأوسط- دور المقاول الرئيسي للمشروع وقادت عمليات البناء والتنفيذ بكفاءة عالية ضمن جدول زمني دقيق رغم التحديات اللوجستية والهندسية المرتبطة بالموقع الحساس قرب المسجد الحرام.

وفيما يخص التصميم المعماري والهندسي فقد تم التعاون مع عدد من الشركات ذات الخبرة والكفاءة العالمية أبرزها شركة دار الهندسة (دار الهندسة للاستشارات الفنية)، وهي شركة عُرفت بتصميم مشاريع كبرى في آسيا والشرق الأوسط. كما ساهمت شركة SL Rasch الألمانية في دمج الفن الإسلامي مع التكنولوجيا الحديثة في تصميم ساعة مكة الشهيرة، وذلك بما يتوافق مع الهوية البصرية الإسلامية ومعايير الهندسة الدقيقة.

التصميم المعماري والبنية الهندسية

1. تصميم برج ساعة مكة

يُعد التصميم المعماري لبرج ساعة مكة نموذجاً هندسياً فريداً يجمع بين الروح الإسلامية والحداثة المعمارية المتقدمة، وهو ما انعكس بوضوح في تفاصيله الإنشائية الدقيقة وتوزيع كتله الهندسية.

يتكون البرج من 120 طابق فوق الأرض و3 طوابق تحت الأرض، ويحتوي على أكثر من 1000 وحدة فندقية فاخرة إضافة إلى مساحات تجارية ومراكز للمؤتمرات لذا نستطيع أن نعتبره واحداً من أكبر المباني متعددة الوظائف في العالم.

من الناحية الهندسية تم تشييد برج الساعة على قاعدة إنشائية ضخمة صُممت بعناية لتحمّل الأحمال الهائلة الناتجة عن ارتفاع البرج ووزنه الهائل والناجمة أيضاً عن التركيب المعقّد للساعة والمنارة. ونظراً لطبيعة التربة الصخرية في منطقة المشروع والتي تتخللها تضاريس جبلية شديدة الصلابة؛ تطلب التنفيذ اعتماد تقنيات متقدمة في الحفر والتدعيم. فتم الحفر العميق باستخدام آليات الضغط الدوراني وتثبيت القواعد بواسطة أوتاد خرسانية ذات أقطار كبيرة تمتد لعمق يتجاوز 60 متراً للوصول إلى طبقات مستقرة من التكوينات الجيولوجية الصلبة.

وفي قلب الهيكل الإنشائي استخدمت الخرسانة المسلحة عالية المقاومة والمزودة بمواد مضافة لتحسين الكثافة والمرونة، وذلك بهدف التعامل مع الأحمال الناتجة عن الرياح والاهتزازات. ودُعم هذا النظام بدمج أعمدة فولاذية ضخمة ترتبط بأجزاء مختلفة من البنية الرأسية والأفقية لضمان توزيع متوازن للقوى وامتصاص الضغوط الداخلية بشكل آمن.

وأحد أبرز عناصر الأمان في تصميم البرج هو نظام "مُخمد الكتلة المضبوطة" (Tuned Mass Damper)، والذي تم تركيبه في الجزء العلوي من البرج لتقليل تأثير تذبذبات الرياح والاهتزازات الزلزالية. وقد تحدثنا عنه مسبقاً في مقالات عدة حيث يعتمد هذا النظام على وجود كتلة ضخمة تتحرك بشكل مضاد لحركة البرج بهدف تخفيف شدة التأرجح وزيادة ثبات الهيكل في الظروف الجوية أو الزلزالية القصوى. وتُعد هذه التقنية من أبرز الابتكارات في ناطحات السحاب الحديثة وبشكل خاص التي تتجاوز ارتفاعات الـ 400 متر حيث تزداد الحاجة لتقنيات توازن ميكانيكي وهندسي متقدمة.

2. تصميم ساعة البرج

الجزء العلوي من برج ساعة مكة تحفة هندسية قائمة بذاتها، حيث يتوّجها أكبر ساعة في العالم من حيث الحجم والارتفاع.

لهذه الساعة أربع واجهات على الجهات الأربع للبرج كل منها بقطر يبلغ 43 متراً. وهي مرئية من مسافات بعيدة تصل إلى 30 كيلومتراً بفضل نظام إضاءة LED فائق القدرة يعمل بألوان متعددة. وبشكل خاص الأخضر والأبيض اللذَين يُستخدمان كوسيلة بصرية لإعلام سكان وزوّار مكة المكرمة بمواقيت الصلاة، خاصة في الأماكن التي يصعب فيها سماع الأذان بسبب المسافة أو الضوضاء.

• اللون الأخضر يُستخدم عادةً قبل رفع الأذان بقليل كتنبيه مرئي يُشير إلى اقتراب دخول وقت الصلاة.

• اللون الأبيض يُضاء عادةً عند رفع الأذان ليكون بمثابة إعلان رسمي ومرئي عن دخول وقت الصلاة.

صُنعت هياكل واجهات الساعة من ألياف الكربون خفيفة الوزن وعالية المتانة. وتم تدعيمها بهياكل معدنية مطلية بالذهب من عيار 24 قيراط، لتحمّل الظروف المناخية القاسية ودرجات الحرارة المرتفعة.

يبلغ وزن كل عقرب من عقارب الدقائق الأربع نحو 6 أطنان، ويصل وزن كل عقرب من عقارب الساعات إلى 5 أطنان. وقد صُمّمو للعمل بتوازن دقيق رغم أحجامها الضخمة وذلك بفضل أنظمة محورية مدعّمة بمحركات قوية تعمل ببرمجيات تحكم دقيقة.

وفي أعلى واجهة ساعة مكة يبرز تصميم استثنائي لا يُرى في أي مكان آخر على سطح الأرض؛ ألا وهو لفظ الجلالة "الله" الذي يحتوي على أكبر حرف "ألف" في العالم. صُمم بدقة فائقة وبمقاييس ضخمة ليشكل عنصر بصري محوري في البرج. وتم إنشاؤه باستخدام مواد مقاومة للعوامل المناخية وهو مطلي بالذهب ليعكس الضوء الطبيعي والاصطناعي.

وعند أعلى الساعة ترتفع قبة زجاجية مذهلة تعلوها منارة ذهبية بارتفاع يزيد عن 90 متراً تُختتم بهلال ضخم مصنوع من الألياف الزجاجية والمعدن المطلي بالذهب ويبلغ وزنه 35 طن. يضم الهلال نظام إنارة داخلي يضيء ليلاً بألوان متبدلة وفق المناسبات الإسلامية أو الأوقات، مشكلاً منارة ضوئية شاهقة مرئية على مدى عشرات الكيلومترات.

يُدار كامل نظام الساعة من مركز تحكم رقمي متقدم داخل البرج يضبط توقيتها بدقة متناهية عبر الاتصال الدائم بشبكة توقيت ذرّي لضمان دقة عالية لا تتأثر بأي ظروف خارجية. كما تم تزويد الساعة بنظام صوتي متكامل لبث آذان يمكن سماعه على بُعد عدة كيلومترات عند رفعه من البرج.

(شبكة التوقيت الذرّي هي نظام يعتمد على الساعات الذرّية الفائقة الدقة لمزامنة الوقت بدقة متناهية على مستوى العالم، ويُستخدم لضبط توقيت الأنظمة الحيوية كالاتصالات والملاحة والأقمار الصناعية).

المكانة العالمية للبرج الملكي

أ‌. مرجعية زمنية بصرية في قلب الحرم المكي

كما قلنا سابقاً؛ يشكّل برج ساعة مكة نقطة محورية للضبط الزمني في الحرم المكي حيث تُستخدم واجهات الساعة العملاقة كمرجع بصري موثوق للمصلين والحجاج على مدار العام. فبفضل ارتفاعها الشاهق ووضوح رؤيتها من مسافات بعيدة أصبحت الساعة وسيلة مركزية لتنظيم الأذان ومواقيت الصلاة.

ب‌. التوقيت الإسلامي ورؤية الأهلة

البرج لا يؤدي دوراً بصرياً فقط فهو يرتبط بشكل وثيق بتنسيق التقويم الهجري القمري؛ حيث يُستخدم في عمليات تحري الأهلة وتحديد بدايات الأشهر الهجرية. وقد ذكرنا آنفاً أنه تم ربط الساعة بنظام توقيت دقيق يعمل على بث إشارات زمنية متوافقة مع الحسابات الفلكية الإسلامية وهذا يجعلها إحدى ركائز توحيد التوقيت الإسلامي.

ج. تسجيله في موسوعة غينيس

دخل برج ساعة مكة موسوعة غينيس للأرقام القياسية لاحتوائه على أكبر واجهة ساعة في العالم إضافة إلى كونه يضم أعلى ساعة مثبتة على مبنى بارتفاع يفوق 400 متر. كما أنه يُصنف ضمن أعلى الأبراج الفندقية عالمياً، ما يجعله إنجازاً هندسياً سعودياً فريداً من نوعه.

د. داعم للسياحة والاقتصاد في مكة

يمثل البرج أحد أهم محركات الاقتصاد المحلي في مكة المكرمة حيث يستقطب الزوار من مختلف الجنسيات بفضل تصميمه الفاخر وخدماته السياحية الراقية. وهو ما عزز النشاط التجاري والحركة الاقتصادية حول المسجد الحرام.

خاتمة

 لم يكن يوماً برج ساعة مكة مجرد مشروع هيكل عملاق من الفولاذ والخرسانة، إنما نظاماً متكاملاً يجمع بين الدقة التكنولوجية والجرأة المعمارية والبصمة الثقافية التي لا تخطئها عين.

فهو مساحة يلتقي فيها الزمن مع التصميم، والضخامة مع التفاصيل، والتقنية مع الرؤية المستقبلية. وفي زمن باتت تُقاس فيه المدن بأبراجها اختار هذا البرج أن يكون مقياساً فريداً في حد ذاته.